Omar Salem
by on يناير 8, 2011
201 views

لم يعرف الرحالة العراقي أحمد بن فضلان في أدب الرحلات عند العرب، مثلما عرف الرحالة المغربي ابن بطوطة عندهم مثلا، لكنه اشتهر في اوربا أكثر من أي رحالة عربي آخر، فرسالته المعروفه باسم : رسالة ابن فضلان قد ترجمت ترجمات كثيرة الى لغات أوربية عديدة، مثل الانجليزية , والألمانية، والروسية، والسويدية وغيرها، وربما ترجمت في اللغة الواحدة أكثر من ترجمة، كما تناولها في البحث والتقصي أكثر من باحث في أكثر من بلد من البلدان الاوربية، ودارت الدراسة حولها عبر المحيط الأطلسي، وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية.


لقد اكتسبت رسالة ابن فضلان شهرتها في أوربا من موضوعها الذي تحدث فيه عن احوال شعوبها في فترة من أحلك فترات الظلام التي كانت تعيشها تلك الشعوب، وأعني بها مطلع القرن العاشر الميلادي الذي كان واحدا من القرون الوسطى المثقلة بالتخلف والانحطاط، والذي لم يكن لهم ما يؤرخ لتلك الفترة غير كتابات الجغرافيين، والرحالة العرب والمسلمين، ويأتي ابن فضلان في الريادة من هؤلاء .

لقد كانت رسالة ابن فضلان تندرج فيما يسميه العرب بأدب الرحلات، والتسمية هذه لا تجانب الحقيقة، فالكتابة في هذا اللون من ألوان الأدب تقترب من كتابة القصص بمفهومها القديم عندهم، ذلك المفهوم الذي يقترب من مفهوم العمل الروائي الذي عرفه الكتّاب العرب في الزمن القريب، متأثرين بغيرهم من كتّاب القصة والرواية في أوربا الحديثة، رغم أن رسائل، كرسالة ابن فضلان وما يشاكلها، قد عرفها تاريخ الأدب العربي منذ أزمنة بعيدة، وتأتي رسالة الغفران التي كتبها الشاعر ابو العلاء المعري، ورسالة حي بن يقظان لابن طفيل في مقدمة هذه الرسائل، يضاف الى هذه الرسائل لون آخر من ألوان الأدب القصصي هو أدب المقامة الذي عرف عند بديع الزمان الهمذاني، وعند الحريري كذلك، وما ترجمه عبد الله بن المقفع منه الى العربية من حكايات في كتاب : كليلة ودمنة، وما أبدع منها العراقيون زمن ابن فضلان في كتاب : ألف ليلة وليلة. ولكن رسالة ابن فضلان تتميز عن كل ذلك بانها تحدثت عن واقع عاشه كاتبه عن كثب، وكتب من خلاله عن اقوام، وحواضر، وطرق عيش متباينة، وعلاقات اجتماعية مختلفة، وأساليب حكم متخلفة 00الخ، وهذا ما يجعل الرسالة في موضوعها تقترب مما يسمى في زمننا الحالي بالدراسات السكانية، (Anthropology) ، ولكن ابن فضلان حرص على كتابة دراسته تلك باسلوب قصصي، وعلى اختصار كبير، واصفا ما رآه، وما صادفه، وهو في طريقه الى ملك البلغار، رسولا من قبل الخليفة المقتدر بالله الذي بويع بالخلافة في بغداد سنة 295 هـ.



 

كما أنه واصل وصفه القصصي هذا كذلك للعثار الكثيرة التي اعترضت طريقه غير ما مرة، والتي كادت أن تودي به، وبمن معه في هلاك أكيد، فالريح كانت باردة، زمهريراً، وكان الجو قارصا يتجمد الماء فيه على لحيته، مثلما كان الغرق يتهدد الدواب الكثير الذي يحمل هدايا الخليفة المقتدر بالله الى ملك البلغار، المش بن يلطوار، ذلك الدواب الذي كان يخوض في ثلوج، ومياه الانهار العديدة، والذي زاد عدده على ثلاثة آلاف دابة، يرافقه خمسة آلاف رجل من رجال بعثة الخليفة في بغداد، كان بعضهم غير مأمون الجانب، يضاف لكل ذلك مشقة الطريق ووعورته، وقطاع الطرق وغدرهم، هذا مع استغراق هذه الرحلة مدة طويلة بلغت في الذهاب أحد عشر شهرا، إذ انها قد بدأت التحرك من بغداد في يوم الخميس، المصادف 21 من شهر حزيران سنة 921 م، وانتهت عند مملكة ملك البلغار، قريبا من ضفاف نهر الفولغا في يوم الاحد المصادف 11 أيار سنة 922 م.


لقد ظلت رسالة ابن فضلان، بعد ذلك، مجهولة للناس في البلدان العربية في زمننا القريب هذا، رغم أن بعض الجغرافيين، والرحالة العراقيين والعرب ممن جاءوا بعد ابن فضلان قد نقلوا عنه صفحات كثيرة منها، مثلما فعل ياقوت الحموي ذلك في مؤلفه الشهير، معجم البلدان، لكن المستشرقين الغربيين هم أول من اهتم بها في العصر الحديث اهتماما ملفتا وكبيرا، وكان ذلك في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، ومع هذا لم يعثر على مخطوطة الرسالة الوحيدة للساعة، والموجودة في خزانة المخطوطات بمدينة مشهد الايرانية إلا في سنة 1924 م.

في رسالته تلك كتب ابن فضلان عن مجموعة من الاقوام الذين مرّ عليهم في رحلته الطويلة، وقد كان العجم و الاتراك (التركمان) أول من كتب عنهم، مفردا لهم عنوانا خاصا بهم في رسالته، مثلما فعل مع غيرهم كالصقالبة الذين خصهم الخليفة المقتدر بالله بمعونته تلك، والذين يعتقد أنهم هم البلغار أنفسهم، أو مثلما فعل ذلك مع الروسية، والخزر.

 



 

وإذا لم يكن قد وقع لبس كبير في تحديد هوية اغلب هؤلاء البشر الذين كتب عنهم ابن فضلان فإن لبسا كهذا قد وقع في تحديد هوية (الروسية) الذين أفرد هو لهم فصلا خاصا بهم، مثلما أسلفت، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنهم من الأقوام المعروفه في زمنه، والذين يشغلون حيزاً مهماً من تلك الأرض البعيدة التي وطأتها أقدامه.


فهل كان ابن فضلان يعني بالروسية الروس الذين ينحدرون من القومية السلافية أم أنهم قوم آخرون غيرهم لحقتهم هذه التسمية ؟ وجوابا على هذا السؤال أقول : لقد ظن البعض ممن كتب عن تلك الرسالة أن ابن فضلان كان يعني بهم الروس السلافيين، سكان ما هو معروف اليوم بروسيا (الاتحادية) ، ولكن كل الدلائل تشير الى أن ابن فضلان كان يعي تماما أنه كان يكتب عن قوم آخرين هم سكان الشمال، أي سكان ما يعرف اليوم بالدول الاسكندنافية، وعلى وجه الخصوص سكان السويد، وتحديدا هم أولئك البشر من السويديين الذين ينحدرون من بين اهم القبائل السويدية العريقة، والمعروفه بـ (Svearerna) ، والتي استوطنت الاقليم الأوسط – الشرقي من السويد، المعروف بـ (Svealand ) ، وهي ذات القبيلة التي منحت اسمها لدولة السويد القائمة اليوم، حيث تسمى السويد بلغة أهلها بـ (Sverige) ، ويبدو أن قرب مواطن هؤلاء القوم من الضفة الشرقية الأخرى لبحر البلطيق هو الذي سهل عليهم الانتقال اليها في العصور الوسطى، وعلى زمن ما يعرف في تاريخهم بزمن القراصنة (Vikingarna) ، حيث أستولوا هناك على مدن أستخدمت، فيما بعد، كمحطات للسلب، والتبادل التجاري ما بين سكان دول الشمال الاسكندنافية من جهة، وبين بغداد واستنبول من جهة ثانية.

لقد عرفت واحدة من هذه المدن باسم هو : (Gårdarike) التي يعتقد أنها هي مدينة :Novgorod الحالية في روسيا الاتحادية، والتي تقع على بعد مئة وخمسين كيلو متر الى الجنوب الشرقي من مدينة سانت بطرسبورغ الروسية المعاصرة، ولفظها يعني : مملكة البيع في معنى من معانيه في اللغة السويدية، ويعتقد كذلك أن الناس في روسيا هم الذين أطلقوا على القراصنة من التجار، أو من قطاع الممرات المائية، القادمين من الدول الاسكندنافية، وبخاصة من السويد، لفظ (Rus) وتجمع في اللغة السويدية على صيغة (Ruserna) ، وقد تتبعت أنا الأصل الذي جاءت منه هذه الكلمة، فعثرت عليه في كتاب : familjebokNordisk، وهو كتاب بين القاموس، وبين الانسكلوبيديا، ووفقا لما هو مدون فيه يكون البناء الأول لتلك الكلمة يُرد الى كلمة (Rhos) التي اطلقها اليونانيون على تشكيل عسكري من خمسمئة رجل من سكان الدول الاسكندنافية الذين كانوا يسمونهم بالفرنجة كذلك، وذلك حين ضمهم القيصر الى فرقة عسكرية قام بتشكيلها لحمايته. ومنذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي ظلت الكلمتان تطلقان سوية على الاسكندنافيين، كما أن كلمة (Rhos) تُرد الى أصلين هما : الكلمة السويدية (rodd) التي تعني التجذيف، احدى وسائل القراصنة في الابحار، أو للكلمة الفنلندية (Ruotsi) التي تعني السويديين عامة . ويصف المصدر المذكور سلاح الواحد من هؤلاء القراصنة بذات الوصف الذي وصفه به ابن فضلان في رسالته، وهو الفأس، والسيف، والسكين، كما أن صلابة بناء أجسادهم، وطول قاماتهم التي وصفها ابن فضلان بطول النخيل تدل على أنهم احترفوا القتال , وخاضوا غمار الحروب الى جانب التجارة التي كانت تدر عليهم ربحاً وفيراً، دفعهم الى المغامرة بركوب البحار، ومن ثم السير على اليابسة ، فالانهار الطويلة ذات المنحدرات المائية الخطرة، مثلما هي الحال مع تيارات المياه في نهر الدنيبر المنحدر نحو البحر الاسود جنوبا، مستخدمين في رحلاتهم التجارية تلك السفن المصنوعة من خشب الأيك الصلب، والخفيف في آن واحد واسطة لتنقلهم هذا، والملاحظ أن كلمة الأيك (Ek) العربية هذه لا زالت تعيش بلفظها في اللغة السويدية، وتطلق على ذات الشجر الذي يأتي منه أجود، واخف أنواع الخشب الذي يعتبر مصدرا مهما، وثرا من مصادر الدخل القومي في السويد، وما شركة بيع الاثاث المنزلية السويدية المعروفة بـ (Ikea) التي غزت اسواقها بلداناً كثيرة، بما فيها بعض الأسواق العربية، إلا دليل على أهمية صناعة الخشب كأحد مصادر ذلك الدخل .

كانت سفينة القراصنة، الذين التقاهم ابن فضلان في مدينة أتل عاصمة ملك البلغار الواقعة على مقربة من ضفاف نهر أتل (الفولغا) ، في إلتواء قرب مدينة قازان، وهو ينحدر جنوبا نحو بحر قزوين، تشبه الى حد بعيد بتصميمها وشراعها سفينة الاهوار في جنوب العراق المسماة بالمهيلة، والتي أخذت هندسة بنائها من تصاميم عراقية تُرد الى العصر السومري، إلا انها تختلف عنها بكثرة المجاذيف على جانبيها، والتي يعمل عليها أكثر من أربعين الى خمسين ملاحا، وسبب خلو سفينة الأهوار من المجاذيف عنها في سفينة القراصنة يرد الى ضحالة مياه الهور التي تتطلب مردياً وليس مجذافا، وعلى عكس مياه البحر العميقة التي تتطلب المجداف، ولا تتطلب المردي، ويبدو أن القراصنة كانوا يطلون سفنهم بزيت سمك الحوت، مثلما كان يفعل العراقيون القدماء ذلك مع سفنهم منذ عهود بعيدة خلت، وتعمد شركات البناء في السويد اليوم الى طلاء الأسيجة الخشبية لحدائق البيوت التي تبنيها بذات المادة، وتعيد طلاءها ثانية بها بعد مرور عشر سنوات على زمن الطلاء الأول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لقد قام ألنشاط الروسي التجاري الذي شاهده ابن فضلان على تجارة الرقيق الأبيض، وخاصة النساء، وعلى الفراء الجيد الذي تعرف به حيوانات المناطق الباردة، وكانت سفنهم تأتي محملة بهذه البضاعة على ظهور البحار، وحين يقتربون من اليابسة يحملون تلك السفن على ظهورهم من خلال أعمدة تخترق السفينة من مواضع المجاذيف في عطفيها، ثم تستقر هذه الاعمدة من طرفيها على ظهور رجال أشداء على جانبي السفين الواحد، يساعدهم في ذلك خفة خشب الأيك، وبهذه الطريق تنتقل السفينة من البحر الى أحد الانهار التي تصل بتجارتهم الى بغداد واستنبول، واشهرهذه الأنهار هو الدانوب من بولونيا، ونهرا الفولغا والدنيبر من روسيا، واهم ما كان يطمحون في الحصول عليه من اسواق بغداد هو سبائك الذهب، والفضة الغير مصنعة، والعملة العراقية الفضية المزينة بالخط الكوفي، والتي لازالت ارض السويد تضم كنوزاً منها، ولازال منقبو الاثار فيها يكتشفون مقادير مهمة منها بين الحين والآخر.


لقد مرّ على رحلة ابن فضلان مايزيد على ألف سنة، ولكن صاحبها مازال محط اعجاب الاجيال الكثيرة على مرّ العصور، وذلك بعد أن تخطى هو حدود القومية الى أفق الانسانية الرحب، فحفظ لشعوب عدة ذخيرة فريدة من ماض ما كان له حضور بينهم، لولا تلك السطور الخالدة التي دونها في عاصمة السلام، بغداد، بعد عودته من رحلته الشاقة تلك، محملاً بكنز من حقائق عاشها بين اقوام بعيدة، خلده على امتداد الزمان. 

 

كن أول شخص يعجب بهذا.