Omar Salem
by on يناير 8, 2011
198 views

اكتسبت رسالة أحمد بن فضلان أهمية كبيرة على الرغم من قلة عدد صفحاتها ، وذلك لأنها تحدثت عن عادات ، وطرق عيش ، وأساليب حكم عند مجموعة شعوب أوربية ، كانت تعيش في ظلام دامس ، لا تعرف بعدُ ما الحرف والورقة ، ولا تقدر الأهمية الكبيرة لهما . ولولا تلك الصفحات القليلة ما كنا لنقف نحن اليوم على تاريخ تلك الحقبة الزمنية الغابرة عند أولئك البشر ، مثلما لم يكن بمقدور الأجيال المعاصرة منهم أن تتعرف على جوانب مهمة من حياة أجدادهم في مأكل ، وملبس ، وعمل ، وعلاقات اجتماعية مختلفة ، دونها إبن فضلان بقلمه الأمين .


رحل أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد من بغداد يوم الخميس في الحادي عشر من شهر صفر سنة 309 للهجرة ، الموافق لليوم الحادي والعشرين من شهر حزيران / يونيو سنة 921 للميلاد ، وفي سفارة دبلوماسية يرافقه فيها نحو خمسة آلاف رجل ، يسوقون معهم ثلاثة آلاف دابة تحمل المساعدة التي طلبها ملك بلغار نهر أتل ( الفولغا ) من الخليفة العباسي ببغداد ، المقتدر بالله ، أبي الفضل ، جعفر بن الخليفة المعتضد ، وذلك عن طريق رسوله ، عبد الله بن باشتو الخزري .
لقد سارت هذه القافلة المهيبة رغم كل أهوال الطريق ، ورغم قساوة البرد والصقيع ، وعلى شحط المسافة ما بين بغداد ، ومكان ما على نهر الفولغا ، ليس بعيدا عن جمهورية تتارستان الروسية الحالية ، حيث حطت تلك القافلة الرحال يوم الأحد في الثاني عشر من شهر محرم سنة 310 للهجرة ، الموافق للحادي عشر من شهر أيار / مايو سنة 922 للميلاد ، بعد أن قطعت تلك المسافة بأحد عشر شهرا .
لقد اختلف المؤرخون القدامى ، والمحدثون من العرب في تحديد
مكان وهوية القوم الذين قصدتهم بعثة الخليفة المقتدر ، فمرة هم الصقالبة ، ومرة هم البلغار ، وهم ، بالإضافة الى ذلك ، لم يستطيعوا أن يحددوا بدقة المكان الذي تقع عليه مملكة البلغار أولئك التي كانت هي ، على ما يظهر ، متنقلة غير مستقرة ، فالراعي والرعية كانا يسكنان الخيام ، وكان كل طموحهم من وفادة الخليفة في بغداد هو تشيد مدينة محصنة لهم ، تقيهم شرور الأعداء من الخزر .
ومع هذا فالدراسات الأوربية الكثيرة ، والحديثة ، التي دارت حول رسالة ابن فضلان هذه ، تؤكد بنوع من الثقة على أن القوم ، الذين نزل عندهم ابن فضلان ، هم التتار الذين يقطنون جمهورية تتارستان التي هي أحدى الجمهوريات التي تتكون منها روسيا الاتحادية الحالية ، والتي اتخذت الآن من يوم وصول ابن فضلان لهم في الثاني عشر من شهر حزيران / مايو عطلة دينية من كل سنة . فالمعلوم هو أن الإسلام قد دخل تلك البلاد ، مع دخول سفارة الخليفة المقتدر ، حيث كان ابن فضلان واحدا من بين المعلمين الذي علم ملك البلغار بعضا من مباديء الدين الإسلامي ، وأجاز لهذا الملك أن يتسمى باسم الخليفة المقتدر ، جعفر ، وسمى أباه باسم عبد الله ، وهكذا صار يخطب له على المنبر ( اللهم أصلح عبدك ، جعفر بن عبد الله ، أمير بلغار ، مولى أمير المؤمنين . )
ومثلما أشرت من قبل ، فإن بلغار الفولغا كانوا على عداوة دائمة مع جيرانهم الخزر الأقوياء الذين اتخذوا من اليهودية دينا لهم ، أولئك القوم الذين أخذت مملكتهم بالضمور والاختفاء منذ نهاية القرن التاسع للميلاد ، تلك المملكة التي قامت الى الشمال من بحري الخز والأسود ، بينما عاشت مملكة بلغار الفولغا ، التي قامت عند ضفاف نهر الفولغا الأوسط ، في وريثتها ، جمهورية تتارستان ، من روسيا الاتحادية المعاصرة للساعة ، مثلما أسلفت قبل قليل ، وقد لعبت كلتا المملكتين دورا مهما خلال القرون الوسطى في العلاقة ما بين دول الشرق من جهة ، وبين روسيا القديمة ، والبلدان الواقعة على ضفتي بحر البلطيق من جهة أخرى .
لقد تحدث ابن فضلان عن شعبي كلتا المملكتين في فصلين من رسالته ، الأول تحت عنوان : الصقالبة ، وهم بلغار الفولغا ، والثاني تحت عنوان : الخزر ، وهم من الأقوام التي ترد في اصولها الى العنصر التركي ، وقد انصب حديث ابن فضلان عن هؤلاء ، وهو حال في ديارهم ، أو وهو ذاهب الى ملك البلغار ، ونازل عنده ، وليس وهو عائد منه الى بغداد ، فليس في رسالته ما يوحي الى أنه كان قد كتب شيئا عن طريق عودته ، رغم أن الراجح هو أنه عاد بذات الطريق الذي سلكه في الذهاب ، ولهذا السبب ، على ما يبدو ، لم يتحدث هو عن تلك العودة ، والقول من أن هناك جزءً مفقودا من الرسالة يتضمن حديثا عن رجوعه الى بغداد ، هو قول فيه شك كبير ، حاله في ذلك حال قول آخر يرى أن ابن فضلان ظل في تلك الأصقاع النائية ، ولم يعد الى بغداد ، مع أن ابن فضلان قد ترك لنا إشارة في رسالته تدل على أنه قد عاد إليها ، وعلى أنه قد كتب رسالته فيها بعد عودته ، فقد جاء في متن تلك الرسالة أنهم قرؤوا ( أي هو ومن رافقه ) نص رسالة الخليفة ، المقتدر ، على الملك الساماني ، نصر بن أحمد ، يأمره فيها بتسلم خراج مدينة أرثخشمين من الفضل بن موسى النصراني ، وكيل الوزير ابن فرات ، وتسليمه الى أحمد بن موسى الخوارزمي ، ويضيف ابن فضلان أن أمر الخليفة هذا قد وصل خبره الى الفضل بن موسى النصراني ، وكيل ابن الفرات ، فاحتال عليه بأن أمر قائد الشرطة بطريق خراسان بوجوب اعتقال أحمد بن موسى الخوارزمي حال وصوله من بغداد ، وذلك بعد أن علم الملك الساماني ، نصر بن أحمد ، عن طريق ابن فضلان ، أن أحمد بن موسى الخوارزمي سيلحق بهم بعد خمسة أيام من تاريخ خروجهم من بغداد ، وحين خرج الخوارزمي منها ، ووصل الى خراسان تم اعتقاله حسب تلك الحيلة . وعلى هذا يكون انكشاف أمر الحلية تلك ، وعلم ابن فضلان باعتقال الخوارزمي قد حدثا في طريق عودته الى بغداد ، وليس في طريق ذهابه الى ملك الصقالبة ، وهذا دليل واضح على أن ابن فضلان قد عاد الى بغداد ، وبذات الطريق الذي رحل به منها ، خاصة وأن قسم كبير من ذلك الطريق كان معروفا للكثيرين من المسافرين ، إذ طالما سلكته قوافل الحجيج القادمة من الشرق الى مكة في موسم الحج عبر العراق .
ويبدو أن القول بعدم عودة ابن فضلان الى بغداد ، أو ضياع جزء من تلك الرسالة كان سببه سكوت ابن فضلان عن تلك العودة ، والصمت التام ، الذي اتسمت به أغلب المصادر العربية التي أخذت من رسالته تلك ، عن تقديم نبذة تكشف لنا شيئا عن حياته ، أو نبذة عن الكيفية التي انتهت بها سفارته الى بلاد البلغار ، ويضاف الى هذا أن الرجل ظل مجهول سنة الولادة ومكانها، ولهذا فنحن لا نعرف شيئا عن نشأته الأولى ، وأين درس وتفقه بمعارفه الدينية ، وهل ترك لنا كتبا أخرى غير تلك الرسالة اليتيمة ، ومثل ذلك ، فقد صمتت تلك المصادر كذلك عن سنة وفاته ، وعن المكان الذي توفي به ، رغم أن ياقوت الحموي ، صاحب معجم البلدان ، قد ذكر أن رسالة ابن فضلان هذه كانت معروفة مشهورة ، متداولة بين أيدي الناس ، وأنه هو نفسه قد رأى منها عدة نسخ ، وكان هذا بعد ثلاثة قرون من زمن تدوين الرسالة تلك ، ومما يذكره ياقوت كذلك هو أن ابن فضلان ، صاحب الرسالة قد عاد الى بغداد ، وهذه الإشارة هي دليل آخر ، يدحض الزعم القائل إن ابن فضلان لم يعد ، وإنه ارتحل من بلد البلغار الى البلدان الإسكندنافية ، وحقيقة الزعم هذه ترد الى رواية : أكلة الأموات التي كتبها الأمريكي ميكائيل كريشتون (Michael Crichton ) ، والتي تحولت فيما بعد الى فيلم سينمائي سنة 1999م تحت عنوان : المحارب 13 ( The 13th Warrior) ، وقد أراد صاحب الرواية ، ومن ثم الفيلم إسقاط كل الصفات المشينة على ابن فضلان ، ومن ثم على العرب وباسلوب تاريخي امتزج بخياله المريض ، ولكنه ما استطاع ، مع كل ذلك الخيال ، أن يحط من قدر البطل ، أحمد بن فضلان ، الذي أنجز بإخلاص وتفان ٍ أكبر عمل بطولي تجسد في رحلته الشاقة تلك ، وفي رسالته التي تعيش للان حاضرة عند العرب والأوربيين على حد سواء ، رغم أنها قطعت من الزمن أكثر من ألف سنة في سيرها المتواصل إلينا ، وستواصل سيرها هذا حتما الى رحاب أجيال قادمة ، أخرى ، ما زالت تعيش في عالم الغيب.

كن أول شخص يعجب بهذا.