Omar Salem
by on يناير 8, 2011
202 views

المحارب الثالث عشر احمد بن فضلان محارب مع الفايكنج

 



لم يكن ابن فضلان رجلا موهوبا أو صاحب رؤية سياسية فحسب؛ بل كان قد درب عينيه الثاقبتين على رؤية ما وراء المشاهد المفردة، وشاغل عقله بالتحليل دون الرصد. وحينما عمل لعقد من الزمان الساعد الأيمن للقائد العسكري محمد بن سليمان -الذي قاد في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر الميلاديين حملات عسكرية امتدت من مصر في الغرب إلى حدود الصين في الشرق- تعلم ابن فضلان الكثير، وأهلته معارفه المتراكمة وثقافته بالشعوب التي خالطها إلى الوصول إلى بلاط السلطان "المقتدر بالله" كرجل دولة وفقيه عالم.
ويستمر ابن فضلان في الترقي في بلاط السلطان حتى عام 921م، حينما وصلت رسالة قيصر البلغار "ألموش بن يلطوار" طلبا لإرسال سفارة إلى القيصرية البلغارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، فاختاره الخليفة على رأس الرحلة تقديرا لمكانته وقدرته على الحوار (هذا وتنتشر في المعالجة الغربية رواية أن اختيار ابن فضلان جاء تخلصا منه، وطمعا في فتاة كان قد أوشك على الزواج بها!).
ويعترف الغربيون بفضل الرحلة في تدوين اكتشافات حضارية نادرة، ويسطّرون اسم ابن فضلان بحروف بارزة في تاريخ التواصل الحضاري بين الإسلام و"الآخر"، ويؤكدون أنها نقلة نوعية في فن كتابة الرحلة العربية التي كانت غارقة في مفاهيم السرد، فنقلتها إلى مستوى التحليل الإثنوغرافي لشعوب وقبائل لم يكن العرب يعرفون عنها شيئا.. بل لم يكن العالم يعرف عنها شيئا.
فكتاب ابن فضلان قد ارتقى بتحليله الأنثروبولوجي فوق مستوى الكتب التي كانت تقرأ في قاعات السمر العربية بسماع القصص الناعمة لنوادر الشعوب الأخرى وطرائفهم؛ اعتمادا على معلومات بعضها حقيقي وكثيرها خرافي. وبين وقت وآخر يتبرع البعض ليخلط الأزمان بالأمكنة؛ فيرى ابن فضلان وقد ذابت عقيدته، وتاهت ملامحه الحضارية، فسقط في التنوع الحضاري للآخر، وعاد من هناك أقل تشددا وأقل حذرا، وأقل إيمانا بعد أن ذاق الفاكهة المحرمة بمضامينها الحسية والفكرية.
بدأت الرحلة في يوم لطيف بارد من شهر إبريل عام 921م حينما توجهت القافلة الضخمة الآتية من خوارزم عبر أراضي الأغوز التركية لتعبر نهر الأورال؛ وتمكنت بعد مخاض عسير من ملامسة ضفته الشرقية. ومن ربوة عالية على هذه الضفة وقف ابن فضلان يتابع في الأفق الطريق الصحراوي الوعر الذي كان قد خاضه من بغداد إلى خوارزم إلى أغوز في رحلة شاقة، هلك فيها الرفاق والأصدقاء، ولم يبق سوى بعض الخدم والمرافقين.
وعاود ابن فضلان النظر إلى الغرب، سائلا نفسه: ما الذي جاء بنا عبر هذا المسار؟ ألم يكن بوسعنا أن نقصد من بغداد وجهتنا إلى البلغار بمحاذاة الساحل الشرقي لبحر الخزر؟ ولكن هيهات! فأولئك اليهود الذين يحكمون مملكة الخزر يقفون للعباسيين بالمرصاد؛ فينهبون قوافلهم، ويقتلون تجّارهم، وما زالوا على قوتهم منذ ثلاثة قرون، يسيطرون على تلك المملكة الفتية الممتدة كمروحة صينية من سواحل بحر الخزر تجاه "كييف" لتقسم آسيا إلى عالمين: الجنوب الإسلامي بأيديولجيته ومدنيته، والشمال بوثنيته وثروته ووحشيته.
ومن بدايتها استمرت الرحلة في جني المخاطر؛ ففشل ابن فضلان في تحصيل الأموال التي أمره الخليفة بجمعها من مدن خوارزم لتلبية طلب قيصر البلغار. وفقد الموكب رجاله بين البرد والمرض، وبدا أن الأجدى العودة إلى بغداد، وهناك سيقع لا محالة العقاب الواجب بأمراء خوارزم وسمرقند وبخارى الذين رفضوا دعم البعثة بالأموال اللازمة. غير أن السير قد قارب على بلوغ منتهاه، والرغبة في الاكتشاف والمعرفة فاقت كل خوف وتردد.
محطات الرحلة

انتقلت رحلة الدعوة إلى الإسلام في روسيا عبر فضاءات جغرافية متباينة: من العراق إلى إيران، فأواسط آسيا، فبلاد بلغار الفولجا أو أرض الصقالبة، إلى الأراضي الروسية، فأراضي مملكة الخزر. ثمة من يضيف إلى ذلك حلقة بين الأراضي الروسية ومملكة الخزر، وصل فيها ابن فضلان إلى شبه جزيرة أسكندنافيا على مشارف القطب الشمالي.
من فارس إلى أواسط آسيا

في مستهل الرحلة يعفينا ابن فضلان من التفاصيل؛ فلا يسطر في فارس سوى خط سير الرحلة؛ فيعرفنا في عدة سطور بالمدن الإيرانية التي مر عليها طريقه لتدخل الرحلة إقليم ما بين نهري جيحون وسيحون، ولم يسجل ابن فضلان في هذه البيئة الشاسعة سوى بعض ملاحظات عابرة؛ وهو ما قد يرجع إلى معرفة هذا الطريق ومعالمه من قبل رحالة سابقين، أو ادخار الكتابة بالتفصيل لحين الوصول إلى المقصد الحقيقي للرحلة؛ وهو أرض البلغار وروسيا.
وفي منطقة الانتقال بين خوارزم والترك في أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هي السماح بالجلوس إلى النار ليصطلي، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولي فكرة التكيف المناخي. وفي المسير يبدأ ابن فضلان في مواجهة أول أسئلة البيئة الوثنية حينما يسأله رجل: "قل لربك ما الذي يريده منا لكي يرفع عنا هذا البرد؟ فيجيبه ابن فضلان: يريدكم أن تقولوا: لا إله إلا الله، فيجيب الرجل: لو علمنا أن ذلك سيجدي لقلناها"، ولا يعلق ابن فضلان على هذا الحوار المقتضب بشيء! ويسأله بعضهم: "ألربنا امرأة؟"، فيستعظم ابن فضلان الأمر، ويستغفر الله ويعظمه، ويردد التركي خلفه الاستغفار والتعظيم. وينتقل ابن فضلان إلى رصد العادات الزواجية في أرض الترك وما يرتبط بها من تقاليد، وكذلك المراسم الجنائزية والوراثية غير المتشابهة مع المبادئ الإسلامية، فضلا عن سيادة السحر.
وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضي البلغار يلاقي ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول: "ورأينا أقوامًا تعبد الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب... إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضي كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا".
لدى بلغار الفولجا

ويصل ابن فضلان إلى البلغار ويستقبلهم ملكهم بترحاب، ويقول في ذلك: "فلما صرنا منه (ملك البلغار) على بعد فرسخين تلقانا هو بنفسه؛ فلما رآنا نزل فخر ساجدًا شكرًا لله جل وعز، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قبابًا فنزلناها. وقرأت عليهم كتاب أمير المؤمنين، والترجمان يترجم حرفًا حرفًا، فلما انتهيت كبروا جميعًا تكبيرة ارتجت لها الأرض". ويحتفي ملك الصقالبة بالبعثة العباسية في فنون مختلفة من الطعام ومراسم الاحتفال بالوفد المهيب. وسمّى ملك الصقالبة نفسه باسم "جعفر" تيمنًا باسم أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وغيّر اسم أبيه إلى "عبد الله"؛ فصار يُنادى على المنبر "جعفر بن عبد الله، أمير البلغار"، بدلاً من "ألموش بن يلطوار".
وبعد ثلاثة أيام وقعت أزمة بين وفد ابن فضلان وأمير البلغار، حينما قرأ الأخير نص الرسالة الآتية من أمير المؤمنين إليه، وفيها حديث عن أربعة آلاف دينار أرسلت له لبناء مسجد وقلعة حصينة. وشرح ابن فضلان للملك الغاضب أن عمال خوارزم أعاقوا تحصيل الأموال وسيقع بهم العقاب، ولم يكن أمامهم إلا إكمال الرحلة لبلوغ الهدف الأسمى، غير أن سوءا من الفهم قد وقع، ودام لعدة أيام بين أمير البلغار وابن فضلان.
ويفسر لنا المؤرخ الروسي رافيل بخارييف في كتابه القيّم "الإسلام فى روسيا.. الفصول الأربعة" أن الغضب الذي وقع لملك البلغار ليس طمعًا في المال؛ إذ إن مملكة البلغار كانت في رغد من العيش، كما أن الأربعة آلاف درهم ليست مطمعًا لملك بمكانة يلطوار، وإنما كان المقصود هو التبرك بهذه الأموال. ويستند بخارييف في ذلك إلى نص رسالة ابن فضلان نفسه التي جاء فيها قول ملك البلغار لابن فضلان: "تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشًا أكان يقدر عليّ؟ قلت: لا، قال : فأمير خراسان؟ قلت: لا، قال: أليس لبعد المسافة وما بيننا من قبائل الكفار؟ قلت: بلى، قال: فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو عليّ فأهلك بمكاني وهو في مملكته"!
ومن النقاط المهمة في محطة ابن فضلان في أرض البلغار هي أن الإسلام كان معروفًا لديهم من مصادر فارسية وتركية. وكما يشير رافيل بخارييف أنه عند وقوع الخلاف على الأموال التي لم يجلبها ابن فضلان كان ملك البلغار ينادي ابن فضلان تهكمًا بـ"أبو بكر الصديق"؛ فهمًا منه أن معنى الصديق يعني "الصدق"؛ وهو ما كان مداعبة ثقيلة لابن فضلان (الذي لم يأتِ بأموال الخليفة)، ولكنه يؤكد على أن أحوال صحابة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وسيرتهم كانت معروفة للبلغار قبل قدوم بعثة ابن فضلان.

 

كن أول شخص يعجب بهذا.